القرآن الكريم وبعض جوانب العمل الخيري المعاصر
القرآن
الكريم
وبعض جوانب العمل الخيري المعاصر
أحمد فتحي النجار
محام وباحث وكاتب صحفي
1438هـ/ 2017م
Afathy97@gmail.com
تمهيد:
لقد حظى العمل الخيري والإنساني في آيات القرآن الكريم
بعناية كبيرة جداً وإهتماماً عريضاً في محكم التنزيل، حيث اقترنت الدعوة الربانية
القرآنية للعمل بشرائع الإسلام، وتأدية عباداته، والقيام على أحكامه وطقوسه بضرورة
فعل الخيرات وتقديم كافة مظاهر العون وأنواع الزكاة و الصدقات والهبات والعطايا
وإغاثة الإنسان ودعم المحتاج وغيرها من صور العمل الخيري رحمة بالفقراء والمحتاجين،
ومن عظمة الآيات الكريمات أنها
لم تفصل أو تحول بين العبادة بكافة شعائرها المادية والروحية بما فيها الركوع
والسجود وبين وجوب فعل الخير والحض عليه، وما يترتب عنه من نفع للعباد والبلاد،
والسعي في الصالح العام والخاص[1]
كجزء من شعائر الإسلام التي يطالب بها المسلم (على وجهي الوجوب والإستحباب) والتي
لا شك تفضي إلى فلاح الإنسان، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (سورة الحج آية رقم: 77)، بل كركن أساسي من أركان الإسلام متمثلاً في فريضة
الزكاة لقول الله تعالى﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ ﴾ (البقرة:43) وغيرها من الأقوال والأدلة.
ولم يتوقف الأمر
عند هذا الحد إذ أن واحدة من مظاهر عظمة القرآن هو دعوته وتحريضه للمؤمنين إلى المسارعة
والتسابق نحو كل أعمال الخير التطوعية الإضافية بقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾
(المائدة: 48)، وأن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
(آل عمران: 104)، وذلك لأهمية العمل الخيري في تحقق التقوى من العباد لله
ربهم بصدقاتهم وفيوض خيراتهم وكافة أنواع عطاياهم بالشكل الذي يساهم في تحقيق أمن
المجتمعات فقال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ ﴾ (الحج:37)، ناهيك عن أهميته أيضاً في تحقيق الإشباع اللازم
للحاجات الأساسية بل والحاجات الفرعية التي تساعد في حفظ الإنسان بإعتباره خليفة
الله في أرضه ضعيفاً كان أم قوياً، وفقيراً ثم غنياً وفق تدرج عادل يضمن تحقيق
الهدف القرآني الأسمى، بل ويتعداه لغيره من المخلوقات كالطير والدواب، ولذلك فقد
تعددت الآيات في كل مواطن وسور القرآن بما يؤكد على أهمية العمل الخيري، واعتباره
غاية كبرى من الغايات الأساسية التي تتحقق بها مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة وسلوك.
ومن ثم فليس من المستغرب أن يزخر التاريخ الإسلامي بصور
العطايا والمنح والصدقات التي كانت ولازالت تعتبر واحدة من أسباب النهوض،
والإرتقاء بالمسلمين على مر التاريخ "دولة" بكافة مؤسساتها ومقوماتها
و"شعباً" بكل طوائفه وفئاته، ومثال ذلك ما قدمه المسلمون الأوائل من منح
وهبات وصدقات وعطايا عملاقة في سبيل الله بمجرد سماع أحدهم آية تدعو للإنفاق وتبشر
المنفق بعطاء الله ورضوانه ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه روى
أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ (آل عمران: 92)، فلما سمعها أبو طلحة الأنصاري بادر إلى وقف أحب أمواله
إليه وهو بستان كبير كثير النخل اسمه (بيرحاء)[2].
ولم يكن فعل أبو طلحة رضي الله عنه أو غيره من الصحابة
فعلاً عابراً تحت تأثير وقتي لآية تغلغلت في ثنايا الروح فحرضت النفس على المنح
والعطاء، إذ أصبح العطاء وفعل الخيرات بصورة طوعية واحدة من الثقافات الإسلامية
الأساسية، والسلوكيات الإعتادية للمسلمين غير فريضة الزكاة التي شرعها الله سبحانه
وتعالى في القرآن المعظم والذي لم تتوقف آياته عن التحريض والحث نحو كل فضيلة وبر،
و مع استقرار الدولة الإسلامية وكنتيجة طبيعية لما أفرزته الروافد القرآنية بكل
جلالها وعظمتها في نفوس المسلمين الأوائل وإقبالهم على المنح والعطاء والتصدق فقد
ظهر ما يسمى بإدارات أو مؤسسات الوقف الإسلامي والتي ظهرت كنتيجة طبيعية لإقبال
المسلمين الغزير على التصدق والإنفاق الخيري، وكان من مهام هذه المؤسسات إدارة
وإستثمار وتوزيع توثيق مثل هذه الأوقاف و الصدقات العملاقة، ناهيك عن غيرها من المنظمات
والجمعيات الخيرية والتي تتبع ما يسمى بالقطاع الثالث.
ومع تعاظم دور مؤسسات القطاع الثالث ومنظمات العمل
الخيري حول العالم في مجتمعاتها وحاجتها إلى التطوير الإداري والتنظيمي بما ي يؤدي
إلى زيادة جودتها وفاعليتها في تحقيق أهدافها فقد تم إعداد هذا البحث لتوضيح بعض
جوانب عظمة القرآن الكريم وإعجازه في تناوله ما يخص قطاعات العمل الخيري والإنساني
الإحترافية من جميع نواحيها، ونتناول هذا الموضوع شديد الأهمية في مبحثين، المبحث
الأول نتناول فيه ماهية العمل الخيري، ومشتقاته، طبيعة المال الذي يملكه الإنسان في
القرآن وعلاقته بالعمل الخيري، مقاصد الدعوة للعمل الخيري في القرأن، وأهم قيم العمل
الخيري في القرآن، وفي المبحث الثاني المبحث الثاني: العمل الخيري في القرآن وبعض المتغيرات
الإدارية والتنظيمية المعاصرة:
المبحث الأول: ماهية العمل الخيري، ومشتقاته القرآنية،
طبيعة المال الذي يملكه الإنسان في القرآن وعلاقته بالعمل الخيري، مقاصد الدعوة للعمل
الخيري في القرأن، وأهم قيم العمل الخيري في القرآن
أولاً: ماهية العمل الخيري والإنساني ومشتقاته وصنوفه في القرآن:
لقد توسع القرآن الكريم في تعريف العمل الخيري، فذكرت
الآيات الكريمات كلمة (خير) و (الخير) في 190 موضع من مواضع القرآن الكريم وجاءت
كلمة (خير) و (الخير) مقترنة بمشتقات تؤكد حرص المولى سبحانه وتعالى على وجوب قيام
المسلم بكل عمل فيه خير وصلاح للإنسان، ناهيك عن غيرها من الكلمات التي لا تعتبر
من صفات ومن صنوف وأنواع العمل الخيري كالتصدق والإنفاق والبذل والعمل الصالح ومن
ذلك حسب الترتيب القرآني ما يلي:
1-
التطوع الخيري:
لعل أول ما بدأت الآيات القرآنية الإشارة إليه على أنه
صنف من صنوف العمل الخيري ومن مشتقاته هو العطاء المادي المباشر ممثلاً في التطوع
الخيري، فمن المعروف أن العمل التطوعي لا يتحقق إلا ببذل الجهد والتدخل المادي
الملموس من الإنسان، وهو في الأصل عمل غير واجب على الإنسان ولكنه يبذله في سبيل
الله تقرباً لجلاله فقال تعالى ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾: (البقرة:158)، وقال تعالى ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ (سورة البقرة:184) وقال تعالى "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ " (البقرة:197)، وكأنها إشارات ربانية إلى أن العطاء الخيري بالمال لا
يغني عن العطاء بالجهد وبالعمل، ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "
على كلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ صدقةٌ فقال رجلٌ مَن يطيقُ هذا يا رسولَ اللهِ قال إماطتُك
الأذَى عن الطريقِ صدقةٌ وإرشادُك الرجلَ الطريقَ صدقةٌ ونهيُك عن المنكرِ صدقةٌ وعيادتُك
المريضَ صدقةٌ واتباعُك الجنازةَ صدقةٌ وردُّ المسلمِ على المسلمِ السلامَ صدقةٌ "[3]،
قال ابن تيمية رحمه الله "ففي هذا الحديث
أنه أوجب الصدقة على كل مسلم وجعلها خمس مراتب على البدل: الأولى الصدقة بماله فإن
لم يجد اكتسب المال فنفع وتصدق، وفيه دليل وجوب الكسب ; فإن لم يستطع فيعين المحتاج
ببدنه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يفعل فيكف عن الشر. فالأوليان تقع بمال إما بموجود
أو بمكسوب والأخريان تقع ببدن إما بيد وإما بلسان [4]".
ولذلك فإن بعض الحضارات المعاصرة ممن حققت وعياً كبيراً
في استنباط مقاصد القرآن وآياته التي تحاكي الفطرة السليمة، والتي تحض على التطوع
الخيري وتدعو له ؛ قد سعت لتطبيق رؤية الإسلام بحذافيرها في هذا الميدان (بقصد أو
بدون قصد) من أجل تحقيق نهضتها الشاملة فكانت أكثر قدرة على استقطاب المتطوعين فتسارعت
خطواتها نحو النهضة والريادة، ويكفي أن نشير إلى أن من إحصائيات ونتائج العمل
التطوعي في أمريكا عام 2010م قد بلغت 81 مليار ساعة عمل، بما يساوي 173 مليار
دولار أمريكي بُثت في صلب الاقتصاد الأمريكي مباشرة[5].
2-
الإنفاق الخيري:
ينقسم الإنفاق الخيري
في القرآن من حيث حكمه إلى إنفاق واجب وإنفاق تطوعي ولكل منهما منهما تفاصيله
وأحكامه في الكتاب والسنة وفي الفقه ولكن حسبنا أن نشير لتعريف كل منهما والحكمة
الربانية لمشروعية كل منهما:
الإنفاق الواجب.
الإنفاق الواجب المقصود
هنا هو الزكوات المفروضة في الكتاب فمن كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح [6]أن
الزكوات في القرآن الكريم كثيرة ومتعددة، ومفروضة على فئات إنسانية تشمل في مجملها
عموم المسلمين القادرين عليها لصالح فئات إنسانية أكثر حاجة نتيجة فقر أومعاناة أو
مرض..إلخ، ومفروضة أيضاً على الأموال وغيرها من الأشياء ومنها على سبيل المثال:
·
زكاة الأموال وعروض التجارة: عروض التجارة هي الأموال
التي عند الإنسان ويريد بها التكسب، ولا تخصص بنوع معين من المال، بل كل ما أراد به
الإنسان التكسب من أي نوع من أنواع المال ففيه زكاة، سواء كان المال عقاراً، أو حيواناً،
أو مملوكاً من الآدميين، أو سيارات، أو أقمشة، أو أواني، أو غير ذلك، المهم كل ما أعده
الإنسان للتجارة والتكسب ففيه الزكاة [7]، ودليل ذلك عموم قول الله تعالى
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (سورة التوبة:آية 103)، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ
فِىۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (سورة المعارج - الآية 24)، فالأصل في الأموال وجوب
الزكاة إلا ما دل عليه الدليل.
·
زكاة الأبدان: والتي تسمى زكاة الفطر لقوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة﴾ (البقرة: 43)
·
زكاة الذهب والفضة
والمعادن النفيسة: وهي التي فرضت بموجب قول الله تعالى {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (سورة التوبة:34).
·
الخارج من الأرض من الحبوب
والثمار: لقوله تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَنفِقُواْ
مِن طَيِّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلآ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوۤاْ
أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (سورة البقرة - الآية 267).
ولذلك فإنه لا يجوز
شرعاً الإمتناع عن أداء الزكاة وتنتزع من مانعها كرها بإتفاق الفقهاء[8]، بل
ويعزر مانعها[9]
أيضاً وفي مثل هذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "والله
لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"[10]، والحكم الربانية من فرض
الزكاة في القرآن كثيرة ومتنوعة منها:
1-
أنها شرعت للمواساة ورعاية
فئات إنسانية واجتماعية أكثر احتياجاً وفقراً، وأقل قدرة على الكسب نتيجة آفة لحقت
بها كمرض أو ضعف أو غربة أو دين أو غيرها فقال تعالى ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (سورة التوبة:60) وذلك لتغطية احتياجاتهم
الإنسانية في أبسط صورها ومساعدتهم على القدرة على العيش، ولا تكون المواساة إلا فيما
له مال من الأموال فحد له أنصبة ووضعها في الأموال النامية فمن ذلك ما ينمو بنفسه
; كالماشية والحرث، وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه كالعين[11].
2-
أنها تُصلح أحوال المجتمع ماديًا ومعنويًا فيصبح
ذلك المجتمع المنفق جسدًا واحدًا لا فرق فيه بين فقير وغني إذ أن الغني يفرض عليه
أن يساعد الفقير.
3-
الزكاة تطهير للنفوس من الشح والبخل [12]، وهي بذلك صمام أمان
في النظام الاقتصادي الإسلامي ومدعاة لاستقراره واستمراره، وهي عبادة مالية،
وهي أيضا سبب لنيل رحمة الله تعالى، قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ ﴾ (الأعراف 156).
4-
الزكاة فوق
ما تقدم شرط لاستحقاق نصرة سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ﴾ (الحج 40، 41)، والنصرة تتحقق في
الأصل عندما يجد الضعفاء أنهم في مجتمع يقدرهم ويستحق أن يقوموا من أجله في أوقات
شدته وأزماته، وهي من أهم أسباب ريادة المجتمع الإسلامي قديماً إذ أن ضعفاءه كانوا
هم أسباب توسعه وإنتشاره كفكر وسلوك وعقيدة.
5-
الزكاة
أيضاً شرط لأخوة الدين، فمن شروط الأخوة وفق المعهود الدارج ( التعاون والمواساة
) وإن ذلك لا يتحقق إلا إذا تآخى الغني مع الفقير، وتعتبر الصدقات والزكاوات واحدة
من أسباب التآخي بين الأفراد، ولذلك قال تعالى: ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ (التوبة 11).
6-
الزكاة صفة من صفات المجتمع المؤمن ، فعندما
يكون إتيان الزكاة ثقافة مجتمعية شاملة، وجزء من العقيدة فإن ذلك دليل على أنه
مجتمع ورع متمسك بتعاليم ربه بحذافيرها، ويجب أن يوصف بأنه مجتمع راقٍ مدرك
للإيمان، قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة 71).
7-
الزكاة من صفات المؤمنين
المحافظين على العبادات والصلوات في المساجد، فلا تكاد تجد مسلم يقبض على دينه
ويؤدي الصلوات كاملة يفرط في إتيان الزكاة وفق ضوابطها الشرعية لمن يستحقها قال
تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ ﴾ (التوبة 18)
الإنفاق التطوعي:
الإنفاق التطوعي له
مسميات متعددة في القرآن الكريم ومن هذه المسميات:
"الصدقات" وذلك
مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول، والاعتقاد[13]، وكذلك منها ما يسمى
"بالهبة "[14]
الخيرية هي ما يقدمه المسلم لغيره تبرعًا من غير مقابل، وتصبح ملكًا للموهوب له بمجرد
التسليم، وله أن يتصرف بها متى شاء، وكيفما يشاء.
ومنها ما يسمى بــ
"التبرعات"[15] وهو
ما يقدمه المتبرع في سبيل الله ولا يرجو عنه مقابل إلا من الله.[16]
وكلها من الأسماء التي
أطلقت على أنواع العطايا التي يدفعها المسلم للفقراء تطوعاً دون الفريضة فتصير
ملكاً لمن قدمت أو أعطيت له يتصرف فيها حسبما شاء.
والأصل فيها من القرآن
آيات كثيرة منها قول الله تعالى قال الله تعالى: ﴿ ثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة الآية:261).
وقوله تعالى ﴿ خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾(التوبة:103)
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (سورة التوبة:60).
وقوله تعالى﴿وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ (سورة الليل الآيات: 17: 21).
كما أن أغلب آيات
القرآن التي تحدثت عن الإنفاق كانت تتحدث عن الإنفاق الخيري التطوعي الذي يخرجه
العبد لصالح الفقراء والمحتاجين بل وفي السراء والضراء، ولهذا غايات كثيرة ومن
أهمها تثقيف النفس المسلمة وتحريضها على العطاء، والتحقق من تحول الإنفاق والعطاء
التطوعي إلى جزء من عقيدة المسلم وممارسته اليومية للعطاء بكافة صوره، ولهذا الأمر
غايات أكبر تنعكس كآثار إجتماعية وإنسانية وإقتصادية إيجابية، ومنها على سبيل
المثال دفع الحاجات[17] عن
المحتاجين، و سد خلات المضطرين في شتى المجاعات[18]، وتحصيل ذكر الخير للمنفق في
الدنيا ووصول الدرجات العالية[19]،
وذلك بجبران النقص الحاصل في صدقة الفريضة (الزكاة)، وذلك لما روي عن أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من
عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته
شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون
سائر عمله على ذلك)[20].
الكفارات وطبيعتها الإنسانية:
التوبة إلى الله
والتحلل من الذنوب والآثام التي يرتكبها الإنسان أمر واجب ودعوة قرآنية دائمة
وتعددت الآيات التي تدعو وتحض على التوبة والتكفير عن الذنوب، وقد حددت الآيات طرق
التكفير والتوبة من بعض الذنوب بطريقة تصب في مصلحة الإنسان المسلم ممن يقع تحت
وطأة الفقر والمعاناة فقال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا
ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (سورة المجادلة الآيتين:2:3 )
ففي هذه الأية فإن التكفير عن الظهار يستلزم
اتباع واحد من ثلاث طرق إثنين منهما لصالح فئات إنسانية وإجتماعية تعاني معاناة
كبيرة وهم المستعبدين من المؤمنين الذين كانوا لا يملكون حريتهم، وكذلك المساكين
الذين لا يجدون قوت يومهم وقد تودي بهم الفاقة وافتقاد الطعام وعدم القدرة على
تحصله إلى الهلاك، ومن عظمة القرآن في هذا الجانب، أنه رفع هذه المعاناة بأكثر من
أداة ووسيلة وطريقة كلها تؤدي إلى رضوان الله ورضاه ومنها العطاء والعمل الخيري
فقال تعالى:﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ
اهْتَدَىٰ ﴾ (سورة طه:82)، ومن عظمة القرآن أنه
هنا مسألة الكفارات أنه أول من شرع أنواع جديدة من العقوبات البديلة، والتي انتشرت في
المجتمعات المعاصرة كفكرة غير تقليدية يتحقق من ورائها الكثير من الأهداف
الإجتماعية والإنسانية ناهيك عن أهدافها في العلاج والتقويم.
والعقوبة البديلة هي حالة قانونية يخضع فيها الفرد
المخطيء لعقوبات تكفيرية من شأنها القصاص للمجتمع بطريقة أقل شدة من العقوبات التقليدية
السالبة أو المقيدة للحرية ولكنها بمكان يجعل الفرد المذنب أو المخطيء الذي توقع عليه
مثل هذه العقوبة أن لا يعود إلى الخطأ أو الجريمة مرة أخري،وهي غالباً تنفذ في أنواع
من الجرائم والمخالفات التي لا تشكل الخطر الكبير علي المجتمعات، والعقوبة البديلة
في هذا الموضع هي الكفارة التي لا يراد من وراءها تقويم المذنبين وحسب بل يراد
أيضاً من ورائها التقرب إلي الله، فتسمو الكفارات بذلك وترتقي لتكون علاقة تعبدية خالصة
بين العبد وربه يرجو بها العبد غفران الله ورحمته الواسعة التي يستوعب من خلالها الرب
الرحيم عباده التائبين والمكفرين عن ذنوبهم ويفتح لهم بذلك أبواب التطهر والتحرر من
دنس الأخطاء والنقائص التي يقعون فيها سواء بالخطأ أو بالعمد، وهي من الأمور التي لا
يتطلع إليها أو يدركها إلا المؤمنين الصادقين مع الله ومع أنفسهم، ولذلك تحقق
نتائج إيجابية على كافة المستويات الفردية والتنظيمية والمجتمعية عموماً.
ومما تقدم يمكننا تعريف العمل الخيري في القرآن على أنه
هو كل فعل أو عمل أو نفقة أو عطاء (زكاة- صدقة – هبة – عطية – منحة- كفارة) أو
مواساة يقوم بها المسلم في الوقت المناسب من أجل إغاثة ودعم الإنسان والإنسانية،
إستجابة لدعوة ربانية وتتجلى عظمة القرآن الكريم في إدخال مشقات لا متناهية إعتبارها
من أشكال البر والعمل الخيري والإنساني، إذ أن القرآن المحكم به من المرونة ما
يستوعب كل ما قد يطرأ على كل فعل أو قول أو عطاء مشروع يمكن تصنيفه حالياً أو
مستقبلاً على أنه من صور العمل الخيري والإنساني
ثانياً: طبيعة المال الذي يملكه الإنسان في القرآن وعلاقته بالعمل الخيري:
ينظر القرآن إلى الإنسان
نظرة رحيمة تساير فطرته وطبيعته، وتقر خصائصه التي يتميز بها عن الكائنات الكونية
الأخرى، فيرى أن من أقوى غرائزه غريزة الجمع والتحصيل وحب المال فقال تعالى ﴿وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 20)، وقال - جل شأنه -: ﴿ وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ (العاديات: 8).
وغريزة الجمع والتملك والاقتناء
هي تلك الغريزة التي تدفع الإنسان إلى المال دفعاً قوياً وتجعله في سبيلها يسعى لتحصيله،
والعمل على تنميته وادخاره وأحياناً تكنيزه،
وفي إطار العمل الخيري
فإن المال يعد هو المصدر الحقيقي للإنفاق التطوعي لأنه بالطبع هو أصل كل الموارد بجميع
أنواعها، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تنوعت
أرزاق العباد واختلفت، ليتفاوت الناس من حيث الغنى والفقر، قال تعالى: ﴿
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى
ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ
لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ (الزخرف:32)، وهبطت "أيضاً
آيات القرآن لتحث القادرين على بذل ذلك المال والتصدق به من قبل أن يأتي يوم لا
بيع فيه ولا خلال، مع تذكيره بأن المال في حقيقة أمره ليس ملكاً خالصاً لمالكه
البسيط في شكله الإنساني، وإنما هو ملك لله الذي هو مالك الملك والملكوت، فقال تعالى:﴿
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ (النور: 33).
فيد المالك البسيط في شكله الإنساني إنما هي يد استخلاف
ووديعة استودعها الله إياه فنهاه، عن إهداره وتبدذيره في أكثر من موطن من مواطن
القرآن العظيم المعظم، كما أمره بأن يستجيب لربه في الحال إذا ما دعاه للبذل
والإنفاق، قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
﴾ (الحديد: 7)، وعلى الإنسان أن يضعه مواضعه، وينفقه في الوجوه التي شرعها
الله، فيأخذ منه ضروراته وحاجاته، ويوزع الفضل منه على من هم أحق به من الضعفاء والعجزة
والمساكين، فالمال فتنة، وإنفاق المال في وجوهه المشروعة نجاح في الاختبار، وتجاوز
لهذه الفتنة قال تعالى -: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
﴾ (الأنفال: 28)، أي اختبار وامتحان، ولذلك جاءت الآيات القرآنية تدعو
الإنسان عموماً والمسلم خصوصاً إلى ضرورة أداء حقوق المال لمالكه الأصلي سبحانه وتعالى،
وللمجتمع في صورة الصدقات المفروضة وعلى رأسها الزكاة والنفقات التطوعية والكفارات
وغيرها تحقيقاً لعدالة التصرف في المال، وإقامة للتكافل الاجتماعي وضماناً لأكفأ استخدام
ممكن للمال.
ثالثاً: مقاصد الدعوة للعمل الخيري في القرأن:
من تفسير آيات القرآن
الكريم والإمعان فيها يتضح أن للعمل الخيري الكثير من المقاصد التي تتعدى ما قد
يدركه إنسان ومن هذه المقاصد كما يرى البعض مقاصد الحرية، والتمدن، وتحقيق السلم
الأهلي ناهيك عن مقصد مكافحة الفقر[21]،
وقضاء الحاجات ودعم المؤسسات، ولكننا تصل لأبعد مما يمكن تداركه، ولها مقاصد تصل
في العموم إلى الحفاظ على الضروريات الخمس كما هو مقرر عند علماء الأصول وفق ما يلي:
1-
حفظ الدين:
لاشك أن الزكاة ركن من
أركان الدين الإسلامي، فلا يكتمل دين المرء المسلم إلا بإتيان جميع أركان الإسلام
بما فيها الزكاة التي يتم توجيهها بنصوص القرآن إلى الفئات الإجتماعية والإنسانية
الأكثر معاناة وحاجة وفقراً وقد جاءت الآيات التي تؤكد على ذلك في أكثر من مشهد من
مشاهد القرآن بصريح نص قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ( البينة:5)، وهي تشير في ظاهرها
وباطنها إلى ضرورة الحفاظ على هذه العبادة بإعتبارها ركن لا يكتمل الدين إلا بتحققه
وأدائه، وتأكد ذلك أيضاً بأحاديث نبوية صريحة ومنها ما روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله
عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ:
شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ
الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[22]،
ولذلك لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب،
قال عمرُ رضي الله عنه:كيف تُقاتِلُ الناسَ، وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
أُمِرتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا لا إلهَ إلا اللهُ، فمن قالها فقد عَصَمَ مني
مالَه ونفسَه إلا بحقِّه، وحسابُه على اللهِ. فقال: والله لأُقاتِلَنَّ من فرَّق بين
الصلاةِ والزكاةِ، فإن الزكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لو منعوني عَناقًا كانوا يُؤدُّونها
إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعِها. قال عمرُ رضي الله عنه:
فواللهِ ما هو إلا أن قد شرحَ اللهُ صدرَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، فعرَفتُ أنه الحقُّ"[23].
والحفاظ على الدين بالدعوة له هو نوع من أنواع
الخير المقرر في القرآن بصريح قول الله تعالى﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104)، إذ أن الإسلام لله
والإخلاص له هو أكبر خير عرفه الإنسان إذا قام على تعاليمه التي ارتضاها الله، وهو
الأمر الذي حثت عليه السنة النبوية وقال عليه الصلاة والسلام: ((من دل على خير فله
مثل أجر فاعله)) [24]، وهو
يدل على أن من دعا إلى الخير وأرشد إليه كان له مثل أجر فاعله، ولا شك أن حفظ
الدين الإسلامي والدعوة له هو من أعظم أنواع الخير الذي يُقدم للإنسانية.
ولذلك فإن التاريخ
الإسلامي يزخر بأنواع الأعمال الخيرية التطوعية والأوقاف التي وقفت من أجل بناء
المساجد وطباعة المصاحف والكتب، ودعم المهرة من الدعاة لنشر الدعوة الإسلامية،
وتصحيح الأفكار، وهذا الأمر يعرفه القارىء لكتاب الله المتمعن في آياته، العارف
بسنة نبيه ومنهجه الصحيح لأنه نتاجهما.
2-
حفظ النفس:
حفظ النفس الإنسانية من
أهم المقاصد القرآنية لقول الله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ (المائدة:32)، فهذه الآية واضحة
الدلالة على أن إحياء النفس المقصود يكون عن طريق تدخل إيجابي فاعل، أو الإمتناع
عن فعل قد يؤدي لهلاكها، وقد جاءت العديد من الآيات الواضحة والتي تقول أن العمل
الخيري من أحد مقاصده هو الحفاظ على النفس الإنسانية من الهلاك خاصة إذا كانت تلك
النفس لا تستطيع بطبيعتها نتيجة فقر أو حاجة أن تحمي نفسها فقال تعالى ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ (سورة الإنسان:8)، ومما يؤكد أن هذا
المقصد توجه قرآني أيضاً آيات الكفارات ومنها قوله تعالى "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ ( المائدة:89)
وقوله تعالى ﴿
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ (المجادلة:4)
ولا شك أن الطعام أحد
الأسباب التي تساعد الإنسان على البقاء على قيد الحياة، وفيما عدا ذلك فلا تكاد
تخلو مناسبة إلا وتجد الآيات القرآنية توجه فاعلى الخير نحو أخوتهم في الإنسانية
من الفقراء واليتامى والمساكين... إلخ.
3-
حفظ العقل:
لقد جاءت الآيات
القرآنية تخاطب كل من له سمع وقدرة على التفكير والعقل وتدعو إلى التعلم وتحرير
العقل الإنساني من براثن الجهل والتخلف في محاولة لصناعة إنسان واعي ومتعلم لا
يلعب به الهوى ولا يتأثر بالمغريات التي قد تفقده عقله، فأول ما هبطت به الآيات،
هو الدعوة للتعلم وتهذيب العقل عن طريق القرءاة فقال تعالى ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق:1)، ولقد ورد فعل العقل بصيغته
الصريحة في أربعٍ وعشرين موضعًا في القرآن وبمعاني مختلفة منها (يعقلون، و أولي
الألباب، و أُولِي النُّهَى ) وغيرها.
و العمل الخيري في
القرآن وكما سبق أن عرضنا من أهم ما دعى إليه هو الحفاظ على النفس البشرية فإنه
يدعو بالتبعية للحفاظ على العقل الإنساني كجزء من أجزاء النفس البشرية، ولذلك فمن
الطبيعي أن نرى اليوم الجمعيات والكيانات الخيري الإسلامية تدعم البرامج التي تدعو
للحفاظ على العقل كبرامج التحذير من المخدرات والتوعية بأضرارها وأضرار التدخين،
وكذلك دعم قطاعات التعليم من خلال مشاركة المحسنين عبر التاريخ الإسلامي في إنشاء
المدارس، وذلك ليس إلا تطبيقاً للدعوات القرآنية الإنسانية التي تدعو للحفاظ على
النفس الإنسانية وكل ما له علاقة بسلامتها بالتبعية، ولذلك فإن العاقل هو الذي يصلح
البيت الذي يطول فيه المقام.
4-
حفظ النسل
من عظمة القرآن أنه جاء
يحض المقتدرين على رعاية الفقراء والمساكين ومن في حكمهم، وتقديم كافة أنواع العون
والمساندة لتلبية إحتياجاتهم ورفع معاناتهم، كما أنه جاء يحض الآباء لا سيما
الفقراء منهم وغير المقتدرين على الإحسان لصغارهم ورعايتهم وعدم التبرم منهم وعدم إتخاذ
تدابير من شأنها التخلص منهم نتيجة الفقر والحاجة فقال تعالى قال تعالى: ﴿وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَوْلَـٰدَكُمْ مّنْ إمْلَـٰقٍ ﴾ (الأنعام:151)، وقال تعالى: ﴿وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ ﴾ (الإسراء:31)، ومسألة كفالة الصغار
الذين يمثلون النسل الإنساني الذي من الواجب الحفاظ عليه ضمنها الله بنفسه فقال تعالى
" نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ " ولاشك أن ما
يقدمه المحسنين بالخصوص للأسر الفقير إستجابة للدعوة الربانية بوجوب دعم ورعاية
الفقراء هو رزق الله الذي يسوقه لهم، عبر هؤلاء المحسنين ليكون سبباً من أسباب
الحفاظ على أبناءهم واستمرارية نسلهم، قال تعالى ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ
اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ
اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (سورة التوبة:104) ولذلك يمكننا القول
وولدينا الأدلة الكاملة بأن حفظ النسل من مقاصد العمل الخيري في القرآن.
5-
حفظ المال:
ورد لفظ المال في القرآن
الكريم 86 مرة، وهو ما يدلل على الاهتمام القرآني الشديد بالمال، ومن ذلك أن اعتبر
القرآن الكريم المال هو قوام الحياة الدنيا، فقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } (النساء/5)، وفي تفسير هذه الآية
الكريمة قال ابن كثير: "قياما" أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها[25]،
ولم يقتصر اهتمام الإسلام بالمال باعتباره عصب الحياة وقوامها فحسب، بل جعل المال ركناً
من أركان الإسلام من خلال فريضة الزكاة،ولما كان الإنسان العاقل حريص بطبعه على
المال، قادر بفطرته على إكتسابه، وحفظه في الغالب بل وتنميته وتكنيزه، فإن القرآن
الكريم جاء يدعو للحفاظ عليه أيضاً ويحذر من عواقب إهداره وتبذيره وعدم إنفاقه في
الوجوه التي ارتضاها الله، كما أن الله سبحانه وتعالى ضمن بنفسه تنميته وزيادته
للمنفق في سبل الخير فقال تعالى ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة آية 261)، والشواهد عبر التاريخ
الإسلامي والإنساني تشهد بنماء أموال كل إنسان أنفقها في وجوه الخير التي إرتضاها
الله لعباده، وكيف لا والله هو المتكفل بتنميته وزيادته في الدنيا وبمضاعفة أجر
منفقها في الآخرة.
رابعاً: بعض قيم العمل الخيري في القرآن:
لقد دعى القرآن الكريم
آن هبوطه من اللوح المحفوظ على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى ترسيخ
مجموعة كبيرة جداً من القيم والأخلاقيات والفضائل بل وتأصيلها في طبائع ومعتقدات
البشر، وهذه الفضائل والقيم كانت ولازالت هي واحدة من أسباب إبهار وجذب غير
المسلمين إلى الإسلام، وهي واحدة من أسباب تحولهم من الكفر للإيمان لا سيما بعد
تمسك الرعيل الأول من المسلمين بها والإصرار على إتيانها كاملة حتى أنها صارت من
ثقافات المسلمين وهويتهم وسمتهم الإنساني والإجتماعي.
والقيم والفضائل التي دعى لها القرآت تكاد تكون
لامتناهية وتمتد لكل مجالات وجوانب الحياة بما فيها العمل الخيري والإنساني الذي
حظي بإهتمام قرآني بالغ وكبير على نحو ما عرضنا وقدمنا، بل إن هذه القيم منها ما
يسمو ويرتقى بالإنسانية لأعلى درجاتها، ومن هذه القيم على سبيل المثال ما يلي:
الجود والكرم والسخاء:
لا شك أن العطاء الخيري
هو نوع من أنواع الكرم والجود والسخاء ولذلك فإن القرآن بطبيعته الأخلاقية التي
تحض على مكارم الأخلاق والتي تدعو للكرم والسخاء جاء يحرض المؤمنين ويعدهم بالأجر
الكبير في الحال والمآل إن كانوا كرماء يجدون بأموالهم في سبيله وفي سبيل الفقراء
والمحتاجين من خلقه فقال تعالى: ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ
مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 261).
قال ابن كثير في تفسير هذه الأية: (هذا
مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثَّواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأنَّ الحسنة
تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ) [26].
- وقال تعالى: ﴿
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾َ (البقرة: 274).
قال السَّمرقندي: (هذا حثٌّ
لجميع النَّاس على الصَّدقة، يتصدَّقون في الأحوال كلِّها، وفي الأوقات كلِّها، فلهم
أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) [27].
التعاون:
ميدان العمل الخيري
بحاجة دائمة لجهود المخلصين ولتضافر كافة الجهود، ولذلك فإن القرآن العظيم الذي
نزل قد حض على التعاون في ميدان العمل الخيري بل وفي كل ميادين البر، فقال سبحانه:
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة:2).
قال القرطبيُّ[28]: (هو
أمرٌ لجميع الخَلْق بالتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، أي ليُعن بعضكم بعضًا، وتحاثُّوا
على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عمَّا نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا
موافقٌ لما رُوِي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((الدَّالُّ على الخير
كفاعله))
وفي تفسير هذه الآية
قال ابن كثير: (يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البرُّ،
وترك المنكرات وهو التَّقوى)[29].
تهذيب النفس وترويضها ووقايتها من الأمراض.
النفس الإنسانية
بطبيعتها تسعى للإنفلات من كل الإلتزامات وتعتبرها من القيود، ولكن القرآن الكريم
ألقى على كاهل النفس المؤمنة ضرورة طرق السبل، واتباع الوسائل التي تربي هذه النفس
وتهذبها لتتقى ما قد يعلق فيها من أدران وآثام، والعمل الخيري والعطاء هو واحد من
سبل وقاية النفس من الأمراض فقال تعالى ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الحشر: 9)، والشح هو البخل
والإقتتار ومقابله هو الجود والإنفاق والعطاء الذي يفضي لوقاية النفس من مرض الشح
الخطير وغيره من الأمراض، ويفضي إلى الفلاح أيضاً، كما أن الزكاة والعطاء والتصدق
علاج في مجمله أراد به الله رفع معاناة قطاعات إجتماعية وإنسانية تعاني بالفعل،
قبل أن تتطهر به نفوس المتبرعين والمتصدقين والمزكين لقول الله تعالى ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ ( التوبة 103)
الإيثار:
الإيثار من القيم والأخلاقيات
التي اعتبرها القرآن صفة من صفات المؤمنين، فالإيثار مرتبة عالية مِن مراتب البذل،
وأعظم منازل العطاء، وهو أرقى أنواع العمل الخيري، لذا أثنى الله على أصحابه في
القرآن الكريم، ومدح المتحلِّين به، ورزقهم الفلاح في الدُّنْيا والآخرة.
فقال الله تبارك وتعالى:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9).
قال ابن كثير في تعريف
المؤثرين على أنفسهم أنهم من يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس
قبل أنفسهم في حال احتياجهم إلى ذلك[30].
ولذلك فقد حض القرآن
أيضاً على بذل النفيس والأقرب إلى النفس في سبيل الله لتطويعها ومغالبة أهوائها
وقال الله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 92).
فإنَّ النَّفقة مِن الطَّيب
المحبوب للنُّفوس، مِن أكبر الأدلَّة على سماحة النَّفس، واتِّصافها بمكارم الأخلاق،
ورحمتها ورقَّتها، ومِن أدلِّ الدَّلائل على محبَّة الله، وتقديم محبَّته على محبَّة
الأموال، التي جبلت النُّفوس على قوَّة التَّعلُّق بها، فمَن آثر محبَّة الله على محبَّة
نفسه، فقد بلغ الذِّروة العليا مِن الكمال، وكذلك مَن أنفق الطَّيبات، وأحسن إلى عباد
الله، أحسن الله إليه ووفَّقه أعمالًا وأخلاقًا، لا تحصل بدون هذه الحالة[31].
وقال تبارك وتعالى:
﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء
وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177).
فبين الله تبارك وتعالى
أنَّ مِن البرِّ بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء.. إطعام
الطَّعام لمحتاجيه، وبذله لمريديه، مع حبِّه واشتهائه والرَّغبة فيه، وقد جاء به الله
تعالى -أي: إطعام الطَّعام- بعد أركان الإيمان مباشرة، وفي ذلك دلالة على عظمته وعلو
منزلته [32].
قال ابن مسعود في قوله
(على حبِّه): هو أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر[33].
الإحسان
لقد أمر الله سبحانه
وتعالى في القرآن الكريم بالإحسان فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ﴾ (النَّحل:90)، وللإحسان الكثير من
المظاهر والأدوات والوسائل، ويتحقق الإحسان بالإقبال على العطاء والأعمال الخيرية
والإنسانية وفي ذلك قال السعدي: (الإحْسَان فضيلة مستحبة، وذلك كنفع النَّاس بالمال
والبدن والعِلْم)[34]،
والمقصود من الإحسان عموماً هو أن يكون العمل الذي يقدمه المحسن بالشكل الذي يليق
بمن يقدم في سبيله، وبالطريقة التي تليق بمن يقدم له، ولذلك قال تعالى: ﴿
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾. (سورة القصص: 77)، وهو ما يعني إن القرآن جاء ليعلم الناس ويوجههم
إلى أعلى درجات الرقي والجودة، التي يتحدث عنها المعاصرين وينشأوا من أجلها المنظمات
الضابطة لها (منظمة الأيزو لضمان الجودة وغيرها)، والتي هي ما إن صعدت ستظل درجة
واحدة من درجات الإحسان الذي يقصده القرآن.
المبحث الثاني: العمل الخيري في القرآن وبعض المتغيرات الإدارية والتنظيمية المعاصرة:
وفي هذا المبحث سنتناول ثلاثة قضايا مهمة من قضايا العمل
الخيري التي عالجها القرآن المعظم وهي:
أولاً: العمل الخيري كمهنة أو حرفة مستقلة:
ثانياً: تسويق القضايا الخيرية والإنسانية في ظل إعتبار العمل الخيري
مهنة مستقلة
ثالثا: معايير حوكمة وقياس آثار العمل الخيري في القرآن
(بعض نماذجها).
وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
أولاً: العمل الخيري ك (مهنة) مستقلة:
لقد كانت استجابة المسلمين لأداء عباداتهم المالية التي
شرعها الله سبحانه وتعالى في الكتاب المعظم ورسوله الأكرم في سنته المطهرة منذ
اللحظات الأولى لتشريعها استجابة إيجابية هائلة لدرجة أن الأمر قد فرض ضرورة وجود
فئة عمالية جديدة في سوق العمل الإسلامية وهم فئة (العاملون عليها) أي على الزكاة
والصدقات والأوقاف والنذور وغيرها مما يقدم في سبيل الله، و هم الذين يتولون جمع
الزكوات والصدقات وإحصاءها وتوزيعها على مستحقيها، بتكليف إلهي ثم بتكليف من
الحكام وأولي الأمر، ويدخل ضمن هذه الفئة العمالية الكتبة والمحاسبون ونحوهم، ولما
كان الأمر بالنسبة لهذه الفئة العمالية ليس بالسهل الهين إذ كان العمل عظيماً
والمقبلين على تنفيذ الدعوة الربانية بتقديم الزكاوات والصدقات كثر بما كان يأخذ
من جهدهم وأوقاتهم بحيث يؤدي الأمر لهلاك هؤلاء العاملين وضياع من يعولون إن
إنقطعوا تماماً لذلك إحتساباً لله وما يتبعه من عدم الحصول على مقابل مادي، ولذلك
قدر الله العليم القدير بعلمه ورحمته وبحكمته البالغة جهد هذه الفئة التي تعمل في
هذا السبيل، فجعل الله لهم حظاً مما يقومون بجمعه من زكاوات وصدقات وغيرها مما
يقدم في أوجه البر وصنوف الخير الذي يعملون فيه، فقال تعالى ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ ﴾ (سورة التوبة:60)، واختلف الفقهاء في نصيب العاملين عليها فذهب البعض أن لهم
ثمن ما يقومون بجمعه فلا يزيدون، وقال آخرون أن لهم أكثر من ذلك،وقالت فئة أن لهم
أقل من الثمن،وقال فريق أن حدهم من الزكاة هو ما تنقضي به حاجتهم لا أكثر ولا أقل[35]،
ومن المعروف عقلاً أن المقومات الرئيسية للعمل هو وجود أدواته الرئيسية ومن عظمة
القرآن أنه خلق هذا القطاع وحدد المقومات الرئيسية لهذه الصناعة بإعتبارها أعظم
صناعة لصالح الفئات الإنسانية والإجتماعية الضعيفة والمحرومة والمحتاجة.. إلخ بعد
الإسلام، ومن هذه المقومات التي ذكرها القرآن هو الآتي:
1-
المنتجات:
ويمثلها في القرآن الدور الذي يجب القيام به كـ (الإطعام) للفقراء فقال تعالى ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا﴾ (سورة الإنسان:8) و كذلك(تقديم الصدقة) للمحتاجين من الفقراء والمساكين
وغيرهم وذلك في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾
(التوبة:60) وغيرها من الآيات.
2-
القوة التشغيلية أو الموارد البشرية: وهم في القرآن الكريم العاملين عليها وهم القادرون على
تسيير شئون العمل من تجيع الزكاة والصدقة وحفظها وتوزيعها، على نحو ما ذكرته الآية
السابقة.
3-
المستهلكين
(المستفيدين): وهم الفئات المستهدفين من هذه الصناعة الإنسانية وهم الفقراء، والأيتام
والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم كما ذكرت الآيات الكريمات.
ولذلك فإن القرآن الكريم قد سبق العالمين فوضع أسس وحدد
مقومات هذه الصناعة وحض كل من له مصلحة العمل على تطويرها والإرتقاء بها، وهو ما
عملت عليه دولة الإسلام منذ نشأتها إذا أوجدت لها الدوائر الخاصة بها كمهنة تخدم
الإنسان وتحسن صورة المجتمع، ووضع الفقهاء العديد من الشروط المطلوبة فيمن يتم
إختياره للعمل في هذا القطاع ومنها أن يكون بالغاً أميناً لأنها من الوظائف التي
فيها ضرباً من الولاية، والولاية تشترط فيها البلوغ والأمانة، ولأن الصبي والمجنون
لا قبض لهما، والخائن يذهب بمال الزكاة ويضيعه على أربابه، واشترط الفقهاء الإسلام[36]
في العاملين والموظفين.
ثانياً: تسويق القضايا الخيرية والإنسانية في ظل إعتبار العمل الخيري مهنة مستقلة:
لقد نظر القرآن الكريم إلى العمل الخيري على أنه صناعة
من الصناعات الإسلامية الأساسية، ومهنة حيوية لها علاقة أصيلة بترسيخ العقيدة
الإسلامية بطبيعتها
الخيرية والإنسانية وبشقيها المادي والروحي، ودعىالقرآن المعظم المهتمين بالعمل
الخيري والإنساني لتسويق أهداف هذه المهنة الإنسانية السامية وقضاياها بكل الوسائل
المشروعة فقال تعالى ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ (آل عمران: 104)، وهو نص واضح على وجوب وجود فئة خاصة يكون عليها مهمة
تسويق الأفكار والقضايا والأهداف، وهي فئة وإن كانت لها علاقة بهذا العمل الإنساني
في المجمل ولكنها في الوقت نفسه فئة محترفة ومتخصصة ولها دورها المنوط بها القيام
به، وحدد القرآن الذي نزل تبياناً لكل شيء طرق ووسائل التسويق للأفكار والقضايا
المهمة في مواطن قرآنية أخرى فقال تعالى﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ
لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ (نوح 8، 9)، وهذا ذكر صريح لعدد من طرق التواصل التي تستخدم في تسويق الأفكار والمعتقدات
والسلع أيضاً، فمنها التواصل الفردي الهادئ الذي يكون بالإسرار، ثم التناقش مع المجموعة
المستهدفة ويكون بالجهر، ثم انتهاءً بالإعلان للمجتمع كله، وكل هذا فيه إشارة إلى أحد
أهم عناصر المزيج التسويقي؛ وهو عنصر الترويج، والذي يشمل جميع نشاطات الاتصال مع الفئات
المستهدفة[37].
وحفز الله سبحانه وتعالى العاملين الذين يتم إختيارهم
وفق شروط وضوابط صارمة لخطورة العمل في هذا الميدان بأن جعل لهم حظاً من الأموال
الذي يتم جمعها وفق نسب محددة على نحو ما شرحنا آنفان، لئلا يتحول هذا العمل
النبيل من شكله الإنساني إلى وسيلة لتحقيق أهداف خاصة ومنها الثراء غير المشروع
للعاملين في هذا القطاع على حساب الفئات المستهدفة، ولذلك فإن الفكرة القرآنية
العظيمة لتجنيد موظفين مختصين للقيام بمهام تسويق القضايا الإنسانية والإجتماعية
وجمع وتوزيع الصدقات والتبرعات التي تقدم لأجلها هي فكرة قد لاقت إهتمام كبير في
دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت جمعياتها الخيرية
بالعمل على تحفيز موظفيها من خلال استقطاع نسب مئوية من هذه الصدقات والتبرعات
تمنح للموظف الذي قام بجمعها وتصل هذه النسب في بعض الأحيان لمبالغ طائلة مما يتم
جمعه لهذه القضايا الإنسانية والإجتماعية وهي نسب مبالغ فيها حتى مع تحقق النجاح
المطلوب من القطاع الخيري بإعتباره قطاع مستقل وقد قفزات قفزات كبيرة في بلاد
الغرب، ولكن هذه الفكرة بهذا الشكل غير منضبطة بضوابط سليمة وتحتاج لإعادة النظر،
وهي في المجمل بعيدة عن الواقع الفعلي لما هو عليه العمل في بلادنا الإسلامية، حيث
أن الأمر ومع ظهور قطاع العمل الأهلي والخيري كقطاع جديد مقنن وموازي للقطاع
الحكومي، ولكنه ظل يعمل بطريقة متحفظة من خلال متطوعين ومحتسبين بشكل أجل نهضته المعاصرة
التي ينتظرها هذا المجتمع الذي هبط عليه التشريع الأمثل الذي حض على كل سبل الخير
والصلاح الإنساني والإجتماعي، وأوجد أسباب رواج هذه المهنة الجليلة ويسر مهمة
العاملين عليها من خلال جعل العطاء جزء أصيل من عقيدة المسلم لا يكتمل إيمانه إلا
بالإشتغال والإهتمام والعمل عليه على النحو الذي ارتضاه له ربه.
ثالثاً: معايير حوكمة وقياس آثار العمل الخيري في القرآن (بعض نماذجها).
تم تعريف الحوكمة على أنها مجموعة من القوانين والنظم والقرارات
التى تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء الاداري عن طريق اختيار الأساليب المناسبة
والفعالة لتحقيق خطط وأهداف اي عمل منظم [38]،
وتم إعتبارها واحدة من الإكتشافات الحديثة في علوم الإدارة والعمل والتنظيم، والتي
حقق تطبيق مبادئها نتائج إيجابية عملاقة في كل القطاعات التي طرقتها مما جعلها
تأخذ مكان الصدارة في الاهتمام العالمي، لدرجة جعلت المهتمين بالقطاع الخيري
ممثلاً في رواده ومديريه في المؤسسات والمنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية يسعون
لإدخالها لتحقيق قفزات كبيرة في النتائج المرجوة من هذا القطاع، ولكن ظلت
الإشكالية تتمثل في صعوبة تطبيق الأنظمة التي تتحقق من خلالها لعدم وجود إتفاق على
معايير دولية أو إقليمية خاصة بها مع صعوبة تطبيق الأنظمة التي تضمن تلك الجودة
والمعمول بها في القطاعات الأخرى كالقطاعات الربحية والتجارية مثل نظام الأيزو
وتطبيقاته في بعض الأحيان بإعتبارها هي أهم النظم العالمية التي يرجى من تطبيقها
تحقيق أهداف الحوكمة، ومع صعوبة إدخال الأنظمة الغربية الأخرى المتخصصة كنظام
بيكاسو الإنجليزي الخاص بمؤسسات الخيرية وبرنامج معايير العمل الخيري الكندي أيضاً،
وغيرها، فإن المؤسسات الخيرية كانت ولازالت بحاجة إلى إيجاد البديل الإسلامي وفق
معايير واضحة ومحكمة، ولا غرابة أن يكون الحل الناجع لهذه الإشكالية في بعض ما
أكدت عليه سور وآيات القرآن الكريم، فمن مظاهر عظمة القرآن وإبهاره أن القرآن الكريم
دعوة مطلقة إلى الإحسان، وما الجودة بكل معايرها ومبادئها وقوانينها وقرارتها بإعتبارها أحد
إفرازات الحوكمة إلا مظهراً بسيطاً من مظاهر الإحسان التي أشار إليه القرآن الكريم
في الكثير من مواطنه، ونتيجة من نتائجه[39]، وقد
بين الله - أنه لن يضيع أجر من عمل وأجاد وأتقن، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ (الكهف:30 )، وقال مخاطباً الجماعة: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ( البقرة: 195) والإحسان هنا لا يخلو من أمرين أما الأول فهو التوجه بالعمل
لله، والثاني هو استعمال أعلى درجات المهارة والإتقان فيه..
ولم يتوقف الكتاب عند ذلك إذ أن واحدة من مظاهر عظمته أن
ضم بين دفتيه الطاهرتين الكثير مما يمكن إعتباره معايير لضمان جودة العمل الخيري
بالتحديد، والقواعد الرئيسية للحوكمة وقياس آثاره ومن هذه المعايير على - سبيل
المثال - ما يلي:
1-
المسارعة والإنجاز مع إختصار الوقت.
في غالب الأحيان فإن هناك ضرورات تتطلب من أهل الخير
وأربابه المسارعة والإنجاز عند التدخل الخيري والإنساني لا سيما في أوقات الأزمات
والكوارث، ولكن عكس ذلك فإن المسارعة والتسابق نحو كل خير وفضيلة هي إختيار قرآني
حتى في غير أوقات الطواريء، وهي واحدة من أسباب عظمة القرآن الكريم في هذا الجانب
والأدلة على ذلك كثيرة ومنها قوله تعالى "اسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: 148)، وقوله تعالى ﴿ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ﴾
(المؤمنون: 61)، ومن ثم فإن السرعة والإنجاز يمكن إعتمادها كمعيار من
معايير حوكمة وقياس جودة العمل الخيري، إذ أنه عند الإمعان في الآيات السابقة
والتعرف على مقاصدها وجد أن عامل الوقت له إعتبارات متعددة منها:
-
إعتبارت إنسانية:
فالمستفيد من
العمل الخيري غالباً ما يكون المحتاج أو المستفيد في موضع إنساني قد يسلمه إلى
الهلاك إن لم يكن هناك مسارعة وسباق نحو قضاء حاجته ووقف أزماته ومعاناته.
- إعتبارات
نفسية:
إذ أن نفس
المانح التي ترجيء وتسوف فإنها مع الوقت قد تكسل أو تعجز فلا تقوم بواجبها نحو
المحتاجين والفقراء لا سيما إن توافرت الأسباب المادية التي تعينها وتدفعها للتدخل
الفوري ولذلك قال تعالى ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ﴾ (سورة الأنعام
- الآية 141).
-
إعتبارات عقدية:
المبادرة نحو كل خير وفضيلة والإقبال نحو كل بر هي ثقافة
قرآنية وجزء من عقدة المسلم يؤصلها القرآن الكريم وتدعو الآيات لغرسها في النفوس
المؤمنة فقال تعالى ﴿ وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
(سورة الحديد:10)، والآية في تفسيرها البسيط تثني على كل من أنفق في سبيل
الله، ولكنها تعظم فضل المبادر والمسرع نحو الإنفاق ومن عظمتها أنها تدعو لدوام
السرعة والمباردة نحو الخير.
2-
الخصوصية
الخصوصية في هذا الموطن هي الحفاظ على أسرار ومعلومات
وبيانات المستفيدين والمتبرعين او غيرهم ممن لهم علاقة بمنظومة العمل الخيري ولا
يرغبون في نشر معلوماتهم وبياناتهم للعامة، ووبالإمعان في تفسير والنظر إلى مقاصد
القرآن نجد أن واحدة من مظاهر عظمته ورأفته أنه حض على ضرورة عدم نشر معلومات
المحتاجين والفقراء المتعففين حفاظاً على مشاعرهم وكرامتهم لقول الله تعالى ﴿لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ
تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ (سورة البقرة:273)، ولكن يكمن الخلل دائماً على أرض الواقع إذا أن المتبرعين وكذلك الكيانات
الخيرية في كثير من الأحيان يتجهون عقب تقديم الخدمة للمستفيد إلى نشر المعلومات
والبيانات بل وفي بعض الأحيان إستغلال المتبرعين والمستفيدين في إعلانات ترويجية
إلا من رحم الله، ونشر البيانات والمعلومات وإن كان هناك إحتمالية لإحتجاج البعض
بأنه حقاً من حقوق الكيانات الخيرية لدواعى وضرورات العمل بشفافية إلا أن الحفاظ
على الخصوصية له إعتبارات إجتماعية وإنسانية وقانونية كثيرة منها:
-
الحفاظ على كرامة ومشاعر أفراد المجتمع من الفقراء وعدم
التشهير بهم، عدم احجام المحتاجين عن قبول الصدقات والتبرعات بما يؤدي لتفاقم
معاناتهم.
-
موافقة شروط المتبرعين الذين لا يرغبون في التعريض
بأنفسهم ليعلمهم العامة.
-
منع الحرج عن المتبرعين الذين قد يتسبب الإعلان عن هويتهم
في مضايقات ومطاردات من قبل المعوزين.
-
منع شبه الإستغلال والإبتزاز التي ينعت بها رواد العمل
الخيري والكيانات الخيرية والتي تهتم بنشر صور ومعلومات المستفيدين بشكل مباشر فتؤدي
إلى إيذاء المتبرع(متلقى الصور - الإعلان) والمستفيد، والكيان الخيري.
-
عدم مخالفة القوانين والأنظمة التي تشدد على إحترام خصوصية
الأشخاص ولو قدم إليهم المعروف.
والخصوصية كمعيار من معايير الحوكمة مرجعيتها هنا قول
الله تعالى ﴿إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾ (سورة البقرة: الآية:271) وهو ما يعني أفضلية الحفاظ على المعلومات والبيانات التي من شأنها التقليل
من كرامة الأفراد أو إظهارهم في صور لا يرضونها، ويؤكد على ما تقدم ما روي عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظله،
يوم لا ظل إلا ظله..."، وذكر منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه"، وهو ما يعني أن الحفاظ على الخصوصية واحد من معايير
تأكيد الجودة أو الوصول إليها وأن إختيار وتقدير رباني وتشريع قرآني جليل.
3-
المحاسبة:
وردت كلمة المحاسبة ومشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من
100 مرّة[40]،
وهو تكرار يدلل على أهمية المحاسبة في مختلف مناحي الحياة، والمحاسبة أداة قياس
وتضم عملياتها كالجمع والطرح والضرب والقسمة، في إعداد الحسابات وموازين المراجعة والقوائم
المالية، وقد وردت في اللفظ القرآني بمعاني مختلفة، منها المساءلة كما في قول الله
تعالى ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ (الطلاق: 8)، وقوله تعالى ﴿يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ (الانشقاق: 8)، ومنها العدّ والإحصاء كما في قول الله تعالى"وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"،
وأما بخصوص المحاسبة في العمل الخيري فقد وردت العديد من الآيات التي تنظمها وذلك
لأهميتها في تحقيق العدالة في التوزيع وإيتاء كل مستحق حقه ومن هذه الآيات قول
الله تعالى﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة: 60) فاستُخدِم سبحانه تعالى في هذه الآية مفهوم التخصيص (تخصيص الإيرادات والنفقات)،
مع العلم أنه تقوم بعض الوحدات المحاسبية بتحصيل وتوزيع الزكاة، من خلال تكوين صناديق
خاصة تجعل هذه الأموال منفصلة تماماً عن أموال الوحدة وحساباتها المختلفة؛ حتى يمكن
إنفاقها في مصارفها الشرعية[41]،
وفي قوله تعالى﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (سورة المعارج: 24،25 ) وهي تأكيد على ضرورة حساب النفقات والمصاريف الخيرية قبل
اخراجها وبعده والتحقق من ذلك بإستخدام الأساليب والأدوات والألات المناسبة، ولذلك
يمكننا الإدعاء بأن المحاسبة واحدة من المعايير القرآنية لضمان وتحقيق وتأكيد
الجودة، وكلما كانت الجهة الخيري متمسكة بمبادئها ا وأدواتها كلما كانت أقدر على
تطبيق المنهج الرباني عموماً وتحقيق أهدافها خصوصاً.
4-
الشفافية والإفصاح:
القرآن الكريم كتاب مبين لا يعترف بالتدليس أو الإخفاء
أو الغش، وقد وردت الآيات القرآنية بنفس الصيغة ﴿كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ في أكثر من موضع منها (سورة الأنعام:
59 ؛ سورة هود: 6؛سورة سبأ: ؛3 )، وبذلك فإن القرآن يقر مباديء الشفافية والإفصاح
الكامل عن المعلومات التي لها علاقة بالأعمال والأموال عموماً ومنها بطبيعة الحال
الأعمال الخيرية، وهو ما يعني استئصال كافة أنواع الفساد ويستأصل أسبابه،وناهيك عن
ذلك فإن للشفافية في العمل الخيري لها أهميتها الكبيرة في قطاع العمل الخيري
المنظم حيث تساعد في تحقيق الرضا للمتبرع أو المتصدق المتعطش
للمعلومات التي لها علاقة بتبرعه، كما أنها تزيد من درجة الرقابة الذاتية داخل
الكيان الخيري، وتساهم في زيادة الثقة والسمو بالأخلاقيات بين المديرين والمرؤوسين
وغيرها من الأسباب، ولذلك فإن مباديء الشفافية ومعاييرها هي مباديء قرآنية تضمن
الجودة وتؤصلها، ويمكن إعتمادها كواحدة من معايير حوكمة العمل الخيري.
وليس ما تقدم عرضاً لكل المباديء القرآنية الخاصة بحوكمة
العمل الخيري وقياس أثره والتحقق من نتائجه، والتي لم يدركها القائمين على هذا
القطاع في شكله المنظم ولكن ليس المقام مقام توسع، ولعل الفرصة تأتي فنتوسع في
عرضها على النحو الذي نرجو والله المستعان.
والله من وراء القصد،،
الفهرس
[2] -أخرجه الإمام
البخاري في صحيحه، وقال وقال: تابعه روح. وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك (رايح)
(2318)
[4] -مجموع فتاوى بن تيمية:18/372:373
[5] - راجع سلسلة إدارة العمل الخيري في ظل الأزمات العالمية والإقليمية
(3): "العمل التطوعي مهمة خاصة (4-5)" http://www.medadcenter.com/articles/222
[6] - ابن القيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين:2/69
[7] - مجموع فتاوى بن عثيمين: 18/252
[8] - حاشية الدسوقي:1/191- المحلى لإبن حزم:12/290
[9] - المغني:2/228
[11] مجموع فتاوى بن تيمية:25/8
[14] - المغني:5/390
[16] - بتصرف
الصحاح للجوهري والمصباح المنير مادة (برع ) ص44، فقد جاء فيهما "وتبرع بالأمر:
فعله غير طالب عوضا "
[18] - غياث الأمم للجويني:1/278
[21] - سيد المنسي: مقاصد العمل الخيري في الإسلام جريدة الشرق القطرية (20/06/2015) http://www.al-sharq.com/news/details/347575
[22] - أخرجه البُخاريُّ في «صحيحه»
(8، 4515)، وفي «التاريخ الكبير» (4/ 213)، (8/ 319، 322)، ومُسلِمٌ (16)، وفي «التمييز»
(4)، والنَّسائِيُّ (8/ 107، 108)، والتِّرمِذِيُّ (2609)
[23] - صحيح البخاري: (1399)
[27] - بحر العلوم للسمرقندي:1/181
[28] - الجامع لأحكام القرآن، 6/46:47
[29] - تفسير القرآن العظيم:2/12
[31] - تفسير السعدي:1/970
[36] - المغني لإبن قدامة:6/326
[38] - صادق راشد الشمري – الحوكمة دليل عمل للاصلاح المالي والمؤسسي-
مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة العدد السابع عشر ايار 2008 ص119
[41] - د. عبد الحليم عمار غربي
ورقة بحثية بعنوان "الدِّلالات المحاسبية في ضوء النصوص القرآنية"(مجلة
الاقتصاد الإسلامي العالمية) العدد الأول يونيو 2012م ص34
أنا محمد عبد الله. إنه لمن دواعي السرور أن نعرف أن هناك أشخاصًا يفهمون معاناة السقوط والنهوض مجددًا. إن التواضع والمثابرة أمران أساسيان. أنا ممتن حقًا لمؤسسة قرض الاتحاد الأوروبي على دعمها ومنحي قرضًا بقيمة 10000 يورو. إذا كنت تبحث عن مساعدة مالية، فيمكنك الاتصال بهم عبر WhatsApp على +393510709856، أو إضافتهم على Telegram على +393509828434، أو مراسلتهم عبر البريد الإلكتروني EuropeanUnion_loansyndication@outlook.com للتقدم بطلب للحصول على قرضك على وجه السرعة، إن شاء الله.
ردحذف