الإستثمار الآمن في المؤسسات الخيرية (1-2)
بقلم : أحمد فتحي النجار
فكرة الإستثمار في الجهات الخيرية فكرة وجدت حظوظها في الإنتشار والدعوة إلى تطبيقها وممارستها داخل المؤسسات الخيرية ممارسة احترافية في الزمن المعاصر وذلك بهدف تعزيز القدرات التمويلية لهذه المؤسسات وكذلك من أجل تخفيف العبء والضغط عن الممولين وتحقيق إستقلالية المؤسسة وجعلها أكثر قيمة ونفعاً لا سيما إذا كان الإستثمار بإمكانه أن يصب في عصب العملية الإنتاجية للدولة أو للكيان العام الذي تتبع له المؤسسة الخيرية .
وفكرة الإستثمار الخيري فكرة أوجدها التشريع الإسلامي وحض على تطويرها والإرتقاء به في مواضع كثيرة من القرآن والسنة ومن آراء وإجتهادات الفقهاء فقال المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) ، قال المفسرون في تفسير هذه الآية يعني : بما فيه صلاحه وتثميره .
وقال مجاهد : هو التجارة فيه . وقال الضحاك : هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا ، ولقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يؤكد على ضرورة الإستثمار للأموال الخيرية حيث قَالَ : " اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ".
ولا شك أن أموال اليتامى التي حض القرآن على التعامل فيها بالتي هي أحسن ، يدخل فيها كافة أموال الصدقات والزكوات التي تقتطع لهم من كافة السبل وهي ليست قاصرة على الأموال التي اكتسبوها عن طريق الميراث ولكنها كل الأموال التي يكتسبها اليتيم مادام قاصراً أو عاجزاً عن إدارة أمواله ، وهذه الأدلة في مضمونها هي من أشد الأدلة على وجوب العمل على تنمية وتثمير كافة الأموال الخيرية ..
كما أن فكرة تنمية الأموال في المؤسسات وإستثمارها وفق ضوابط معينة تحقق الهدف من فكرة التنمية والإستثمار الآمن دون أن تتعرض هذه الأموال لما يضيعها وبالتبعية تضييع من أقتطعت من أجله ، هي من الأفكار التي يدور حولها الكثير من الفقهاء والمهتمين والباحثين دون المساهمة الفعلية في تحديد الأسس والأدوات وتحديد المعايير التي يجب أن يقوم عليها وإن كان المنهج أكثر وضوحاً وهو الأمان والمشروعية ورغم ذلك فإن ثمة الكثير من المعوقات التي تحول بين هذه الإنطلاقة المرجوة .
من معوقات الإستثمار في المؤسسات الخيرية الأمانة التي يتحملها العامون القائمون على المؤسسات الخيرية في جانبها الأصعب تتمثل في ضرورة تقديم الدعم المستحق لأصحابه في موعده دون نكوص وهذه الأمانة لها أكبر الأثر في إحجام الإدارة الخيرية عن إستثمار الفائض النقدي أو أجزاء من الموارد بشكل يقوي من قدرة المؤسسة المالية ومن ثم يساعدها على النمو والتقدم والإنتشار والإكتفاء فقط بالدور البديهي للمؤسسة في عملية إدارة الموارد من خلال إستقبالها وتوزيعها أو إعادة توزيعها على المستحقين وإختصار مراحل كثيرة من العمل المؤسسي وبما قد يحققه من تحسين المصداقية العامة والثقة في المنظمة الخيرية ، وبالتالي تضييع العديد من الفرص على نمو المؤسسة ورفاهية من تدعمهم وتغلق الباب أمام استيعاب فئات جديدة من المعوزين والمحتاجين والفقراء ، يضاف إلى ذلك أن أسواق الإستثمار اليوم أصبحت تحت وطأة العولمة والإقتصاد العالمي المفتوح أصبحت تحتمل الكثير من المجازفة وهو أمر لا شك سيعرض أموال المعوزين للخطر وسيعرض الإدارة للمسآلة وربما يفقدها ثقة الممولين حتى وإن كان كانت حسنة النية وبريئة أمام الله إن تعرضت هذه الأموال للضياع ، كما أن قدرات المؤسسات التجارية والإستثمارية المتخصصة تعجز مثيلاتها عن المنافسة لا سيما إن كانت قدراتها المادية والإستثمارية ضعيفة أو محدودة ، وهو ما يعزز ضرورة إيجاد حلول لهذه الإشكالية ووجود أدوات من شأنها فتح آفاق ودروب للإستثمار يتحقق منها النمو والنجاح .
الإستثمار الآمن كيف يكون ذلك ..؟؟
الإستثمار الآمن الذي نعنيه في هذا المقام هو القطاعات التي تستطيع فيه الجهات الخيرية وضع إمكانياتها المادية والمالية لتحقق من خلالها نسبة أرباح دائمة ولو كانت ضئيلة دون ثمة خطورة تتعرض من خلالها هذه الأموال لما قد يضيعها ، ويعتبر الإستثمار في قطاع البنوك اليوم هو أكثر قطاعات الإستثمار أماناً حيث أن البنوك تجتذب أموال العملاء وتقوم بتوظيفها مقابل نسب ربحية ثابتة تدفعها للعملاء وللمستثمرين كعوائد أو فوائد لأموالهم المدخرة أو المستثمرة ، ولكن إن بدا الإستثمار في مثل هذا القطاع آمناً بالنسبة للجمعيات والمؤسسات الخيرية غير الإسلامية ، ولكنه يبقى محظور شرعاً في التشريع الإسلامي ويحظر على المؤسسات والمنظمات الخيرية الإسلامية التعامل أو الإستثمار فيه ، والأدلة على الحظر والتحريم كثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع علماء الأمة ، وهو إن كان يدل فإنما يدل على أن الإستثمار الآمن في التشريع والفكر الإسلامي يختلف كثيراً عن الإستثمار الآمن في غيره من التشريعات والمجتمعات والأفكار .
وبالتالي فإننا من الطبييعى أن نسعى لإيجاد القطاع الذي تتحقق منه نسبة الأرباح الثابتة أو المتغيرة دون أن تنعت العملية الإستثمارية برمتها بالحرمانية وبالحظر الشرعي ، وهذه المسألة تحتاج لعمل جاد وبحث مستمر وإعداد خطط ودراسات جدوى محكمة لا تسمح بالخلل وفي الإطار نفسه تعمل على إستيعابه إن حدث بما يحقق الغرض المأمول من العملية الإستثمارية ، ولقد نجح العرب والمسلمون قديماً وحديثاً في قطاعات إستثمارية مهمة منها التجارة والتي ذكرها الله في قرآنه الكريم في سورة قريش فقال تعالى {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} ،
وكذلك قطاعات الزراعة والصيد وغيرها من القطاعات التي فيها نسب قليلة من المخاطرة ، وهذا التجارب الناجحة هي ما تفتح أبواب الأمل وبعيداً عن الخطط ودراسات الجدوى والتجارة وغيرها من القطاعات التي حققت نجاحاً كبير في تاريخ البلدان والأوطان العربية والإسلامية ، فإن المؤسسات الخيرية بحاجة لإتاحة الفرص لخوض هذه التجارب بإسم الإنسان ومن أجل المنفعة العامة وهذا الأمر لن يتأتي بالشكل المضمون إلا عن طريق دعم حكومي من قبل الأنظمة الحاكمة ، والدعم والتنظيم الحكومي لهذه المسألة من الأمور المعروفة وذلك بإعتماد ميزات معينة للجمعيات والمؤسسات الخيرية تستطيع من خلالها ممارسة هذه المهمة الإنسانية والتنموية في الوقت ذاته والأدوات التي تساعدها في ذلك معروفة ومورست كثيراً في أغلب المجتمعات على مر التاريخ الإنساني ، فلقد كان للدول والكيانات السياسية سلطات كبيرة في تنظيم كافة شئون مجتمعاتها وبما فيها سلطتها في إدارة إقتصادياتها ومنها سلطتها في نزع الملكيات الخاصة للمنفعة العامة ، وسلطتها في منح الإقطاعيات وفق ضوابطها القانونية والشرعية وكسلطتها في مكافحة أو تنظيم الإحتكار وكلها من المعاملات التي نظمها التشريع والفقه الإسلامي أيضاً ، والدولة بما لها من هيمنة على كافة الأمور والمعاملات على أراضيها تستطيع معالجة بعض أنواع هذه المعاملات لتمنح من خلالها هذه الجهات الخيرية بعض الميزات والصلاحيات والتي قد تساهم فعلياً على دعم التنمية الإنسانية والإقتصادية على إقليمها دون أن يكون لتنظيم هذا المعاملات تأثيرات سلبية على الإقتصاد الخاص للأفراد أو للجماعات الموجودة أو لمنازعة الدولة في سلطاتها وإمكانياتها.
خلاف ذلك فإن وسائل الأمان في العمليات الإستثمارية كثيرة ومتنوعة وهناك آليات وضمانات عملية من خلال الممارسة الحقيقة للإستثمار والمنافسة مع الآخرين تضمن تحقيق نجاح العمل الإستثماري في قطاعات لا متناهية ولكنها لا تسلم من الخطورة التي تتضاعف أو تتزايد وفق معطيات كثيرة ولذلك فإن فكرة الإستثمار من خلال الجمعيات والمؤسسات الخيرية يجب أن تخضع لقواعد وضوابط معينة تساعدها على نجاح تجربتها ، ويجب أن تكون قابلة للقياس وفق معايير واضحة لعلاج أي خلل يشوبها في أي مرحلة من مراحلها ، وهي موضوعنا حال إستكمال هذا المقال بعون الله، والله من وراء القصد .
تعليقات
إرسال تعليق