الاستثمار الآمن في المؤسسات الخيرية (2-2)


بقلم : أحمد فتحي النجار

تطرَّقنا في المقال السَّابق[1] لمدى مشروعيَّة فِكرة الاستثمار في المؤسَّسات الخيريَّة، ولبعض الأدلَّة التي تشجِّع على الاستثمار من القرآن الكريم والأثر والمعقول، وتطرَّقنا أيضًا لما قد يَعوق إدارةَ المؤسَّسة الخيريَّة عن السَّير في هذا الدَّرب، إضافة إلى بعض الوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق فِكرة الاستثمار الآمِن، واليوم نستكملُ بعون الله الحديثَ في هذا المقال على النحو التالي:
فكرة الاستثمار لتنمية الموارد، هل تتناسب مع كل المؤسسات الخيرية؟
فِكرة استثمار جزء من موارد المؤسَّسة الخيريَّة من الأفكار التي وَجدَت الكثيرَ من المهتمِّين، بل والكثير من الجهات الخيريَّة التي قامَت على تنفيذها رغم الخطورة، ولكن هذه الفِكرة ربَّما لا تتناسب مع الكثيرِ من المؤسَّسات لا سيما تِلك التي ليسَ لديها الفائض من الإمكانيَّات الماديَّة الذي يعزِّز خوضَها غمارَ هذه التجارب، وهي بذلك ليسَت من الأفكار المطلقة غير القابِلة للنقضِ، وإن كان الأمل هو مُحاولة إدخال الدَّعم الذي يقدِّمه الدَّاعِم أو المتبرِّع ليلعب دورًا إيجابيًّا ينعكس على المنظومة الخيريَّة، ويعزِّز ثِقة الدَّاعم في المؤسَّسة، فيقوم بدَورة إيجابيَّة تساعد في زيادته قبل أن يصِل للمستفيد، وقد تكون الفُرَص اليوم ومع وَفْرة رؤوس الأموال لدى العديد من المؤسَّسات الخيريَّة متاحة لأَن تلعَب الجمعيَّات والمؤسَّسات الخيريَّة دورًا هامًّا في هذا الشأن، ولكن هناك مَخاطر حقيقيَّة تتعرَّض لها الكثيرُ من المؤسسات الاقتصادية والاستثماريَّة، بعضها يمثِّل خطورةً شديدة تهدِّد المشروعات بالفشَل الذي قد يؤدِّي إلى حلِّها وإنهاء دَورها بالكليَّة، وتتمثَّل هذه المخاطر في خسارة رأسِ المال، وخسارةُ رأس المال المستثمَر بواسطة الجمعيَّات الخيريَّة يعني فَقْد الجمعيَّة الخيرية لمواردها وفشلها في القيامِ بدَورها الرئيسي، أمَّا الخطر الآخر فيتمثَّل في تقلُّبات الأسواق، التي قد يكون لها آثارٌ إيجابيَّة عندما تتقلَّب للأفضل، وآثار سلبيَّة عندما تتقلَّب للأسوأ، ولكنَّ هذه التقلُّبات آثارُها السلبيَّة أقل حِدَّة، وغالبًا فإنَّها لا تُعيق المستثمرَ الخيري عن استكمال دَوره الإنساني.

إمكانيَّة نجاح الاستثمارات في المؤسسات الخيرية في ظِل اقتصاد عالمي مفتوح:
نَجاح الاستثمارات عمومًا أصبحَ عمليَّة حسابيَّة دقيقة، تَعتمد على وسائل احترافيَّة ليسَت صعبة، فمتى تحقَّقَت هذه المقدِّمات كان النَّجاح مؤكَّدًا، والجهات الخيريَّة التي تبتغي خوضَ غمار هذه التَّجارب عليها الإمساك بما يؤهِّلها من أدوات وخطَط وإستراتيجيَّات، مثلها مثل كافَّة المستثمرين والمنافسِين الذين يعملون في قطاعات الإنتاج والاستثمار، وذلك في حال عدم حصولها على امتيازاتٍ حكوميَّة تجعلها تقوم بالعمل الاستثماري بشكلٍ آمِن لا تفقدها فيه المنافسَةُ الأموالَ التي اكتسبَتها من أجل الفُقراء والمحرومين، والأسواق العالميَّة اليوم أصبحَت أسواقًا واسِعة وتتَّسع للجميع، ومعايير النَّجاح هي جَودة العمَل وفق مواصفاتِه العالميَّة أو المحليَّة، مع تقديم امتيازات ملموسَة في الأسعار ترجِّح كفَّة المنتِج أو المستثمِر في المنافسة واكتساب ثِقة المستهلِكين، التي تُعتبر من أهمِّ ضمانات النَّجاح.

القواعد والضوابط التي يجب أن تتحكم في نجاح عمليات الاستثمار الخيري:
وهذه القواعد والضَّوابط هي ضمانة كبِيرة لعدم الشَّطَط والخروج عن المألوف حال اتِّخاذ المؤسَّسة الخيريَّة قرارَ استثمار بعض مواردها، وهي ضَمانة لتحقِيق أكبر عائدٍ مادِّي يعزِّز قُدرَة المؤسَّسة الخيريَّة على تحقيق هدفها الإنسانِي والخيرِي الأهم والأعظم، الذي قامَت من أجلِه، التي لا شك أنَّ في عمليَّة تجاوزها يَحدث الخَلَل الذي يعرِّض أموالَ المستفيدين للخطر، ومن صور هذه القواعد والضوابط ما يلي:
 المشروعية:
وهي تعني عدم إمكانيَّة خوض العمَل والاستثمار في المجالات والقطاعاتِ التي يحظرها الشَّرعُ، وأهمها القِطاعات التي قد يَدخلها الرِّبا وكافَّة أنواع المحظورات المنهِي عنها شرعًا، إضافة إلى كافَّة الأنشطة التي تحظرها الحكومات والأنظِمة لأسباب تتعلَّق بالسياسة الشرعية.

 التخطيط المحكم:
والتَّخطيط المحكم يعني إِعداد الدِّراسات والأبحاث السوقيَّة والاقتصاديَّة، ودراسات الجدوى عالية الدِّقَّة بحيث لا يدخلها أو يؤثِّر فيها أي خلَل، ودراسات الجدوى في هذا المكان يجب أن تُعنى بمعرفة القُدرات الماديَّة المقطوعة للاستثمار من المؤسَّسة الخيريَّة وإمكانية زيادتها مستقبلاً، وإيجاد أنسَب المشروعات التي يمكن توظيف هذه الأموال فيها بشكلٍ يضمن الرِّبحَ، ويدرأ الخسائرَ، ويعزِّز دورَ المؤسَّسة الخيريَّة في أداء مهمَّتها.

 الاستعانة بالمتخصِّصين في أعمال التجارة والاقتصاد والاستثمار:
والاعتماد على المتخصِّصين وأصحابِ الخبرات من التجاريين والاقتصاديين من الأمور التي يقرُّها العقلُ السليم والمنطِق بعد الشرائع، ولقد أقرَّها اللهُ سبحانه وتعالى فقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ﴾ [النحل: 43]؛ حيث يمثل الاعتماد على المتخصِّصين ضمانَة قوية لأَن يكون العمل الذي تخوضه المؤسَّسة قائمًا على كوادِر بشريَّة لها من الخبرات والمؤهِّلات ما يؤهِّلها أن تقومَ بعملٍ احترافيٍّ سليم وقويٍّ، تتحقَّق من خلاله نتائج  تصبُّ في عصَب التنمية، وتعزِّز نجاحَ الجهة الخيريَّة في أداء مهمَّتها الاقتصاديَّة والإنسانيَّة والاجتماعية.

 البعد عن المجالات عالية المخاطر:
حيث إنَّ هناك الكثير من الاستثمارات غير المضمونة، التي يُعتبر العملُ فيها من أسباب ضَياع رؤوس الأموال وتعرُّض كُبريات المؤسَّسات الاقتصاديَّة للخطر، ومنها الاستثمار عن طريق المضاربَات، التي أصبحَت تعتريها في أغلب الأحيان صورٌ غير مشروعة تتشابَه بالمقامرات والمغامرات غير المدروسة، وهو ما يعدُّ استثمارًا مرتفِع المخاطر، وهو وإن كان غير مستحبٍّ بالنسبة للمستثمِر العادي، ولكنَّه بالنسبة للمؤسسات الخيريَّة يعتبر من المحظورات التي يجب عدم التفكير فيها.

 التنظيم الدقيق:
التنظيم الدَّقيق يعني التناسُق في الأدوار التي تقوم بها الإدارةُ العُليا للجهة الخيريَّة مع الأدوار التي تقوم بها الإدارات الفرعيَّة وإدارة الاستثمار التي يُمكن استحداثها في حال اتِّكاء الجِهة الخيريَّة على المختصين وأصحاب الخبرات في العمل الاقتصادي والاستثماري، مع تَذليل كافَّة العقبَات للوصول إلى الدَّرجة المطلوبة من النَّجاح التامِّ للمؤسَّسة، والتنظيم وتناسق الأدوار هو عمليَّة إداريَّة تهتمُّ بتجميع الأهداف، وتَوحيد المهامِّ، وتنسيق الأَنشطة؛ لتقدِّم في النهاية العملَ المراد تقديمه بشكلٍ متميز وبدون تعقِيدات.

 الشعور بالمسؤولية:
والشعور بالمسؤولية هنا هو مَزيج من المشاعر الإنسانيَّة والاجتماعية المطلوبة، التي تنعكس في شكلِ العمل بالجدِّ والإخلاص اللاَّزم وغير العادي؛ من أجل النَّجاح وتحقيقِ النتائج الإيجابيَّة، التي يمكن قياسها ومعرِفتها بما رَبحه المشروع الاستثمارِي الذي تتبنَّاه الجِهة الخيريَّة، مع الإصرار على تحقيق نتائج إيجابيَّة في المستقبل القريب.

عملية قياس الأداء الاستثماري:
قياس الأداء الاستثماري هو أحدُ الوسائل الفاعِلة والمبتكَرَة في مجالات الاقتصاد والاستثمار والتنمية عمومًا، وهو يعني إِخضاع الأداء والنتائج للقياس وَفق معايير ومواصفاتٍ علميَّة ومهنيَّة معروفة سلفًا، وعندما تكون النتائج إيجابيَّةً فإنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ المؤسَّسة تسير في الطريق الصواب، وأمَّا إذا كانت النتائج خلافَ ذلك، فإنَّ على المؤسَّسة مراجعة نفسها وتقويم عملِها، أو الانسحاب من المنافسة بشرفٍ قبل حدوث المزيد من الخسائر، وتتزايَد حاجةُ المؤسَّسات الخيريَّة التي تخوض التجاربَ الاستثماريَّة إلى مطابقة أدائها ومنتجاتها للتقيِيم؛ لمعرفة مدى إمكانيَّة مواصلة هذا العمل من عدمه، ويُحبَّذ أن تبادر إدارة المؤسَّسة الخيرية إلى التحقُّق مِن ذلك خلال مدة قريبة؛ لتمضي في مهمَّتها الاستثماريَّة وهي تقف فوق أرضٍ صلبَة تُشعر المستفيدين من الفُقراء والفئات الاجتماعية المحرومة بالأمان.

وفي النهاية نودُّ التنويهَ أنَّ عمليَّة خوض الجمعيَّات الخيريَّة لتنمية مواردها واستثمارها وَفق معطيات الأسواق - قد تكون من الأسلِحة الحادَّة، التي قد تؤدِّي إلى نتائج سلبيَّة إذا لم تكن تلك الضَّمانات السوقيَّة المدروسة وافِية أو مدعومة من الأنظِمة والحكومات، والاستثمار من أجل تنمية موارد الجمعيَّات والمؤسسات الخيرية وإن كانت أهدافها إنسانيَّة ومشروعة، ولكنَّها ليسَت هي أصل المهمَّة أو الدور الذي منحت به الجهة الخيرية تراخيصَ إنشائها وعملها.

والله من وراء القصد..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القرآن الكريم وبعض جوانب العمل الخيري المعاصر

كيف نحافظ على المتبرعين .؟؟

تسويق العمل التطوعي في المنظمات الخيرية بالطريقة العلمية